سحب مصرف لبنان نحو 5 تريليونات ليرة إضافية من السوق في إطار سياساته النقدية الرامية إلى ضخّ الدولارات وتجفيف السوق من الليرات إلى الحدّ الذي يحافظ على «الاستقرار» في سعر الصرف. أدّى ذلك، بالتزامن مع انتقال جزء كبير من الليرات التي يملكها الضمان الاجتماعي من المصارف إلى مصرف لبنان، إلى ارتفاع سعر فائدة الانتربنك لتبلغ 150‪%‬، وتجعل المصارف في مأزق البحث عن الليرات لتسديد التزامات تجاه الزبائن وتجاه بعضها البعض. هذا ما خلق بلبلة في السوق تتمحور حول السؤال الآتي: إلى أي مدى في إمكان هذه السياسة النقدية أن تحافظ على الاستقرار؟‬

تقوم السياسة النقدية لمصرف لبنان، على التنسيق والتعاون مع الحكومة. تلتزم الحكومة بالامتناع عن الإنفاق أكثر مما يرد في الموازنة، وبالتالي الالتزام بالإيرادات في مقابل النفقات، ويلتزم مصرف لبنان بأن يدفع الرواتب والأجور بالإضافة إلى بعض الفواتير المتوجبة على الخزينة، بالدولار. هذا الأمر خلق «الاستقرار» في سعر الصرف طوال أكثر من سنة، لكن ما إن حطّ العدوان الصهيوني أوزاره في لبنان، حتى بدت هذه المعادلة ضعيفة نسبياً، فاضطر معها مصرف لبنان إلى إجراء تعديل يقوم على ضخّ المزيد من الدولارات في إطار أمرين: دفع مستحقات إضافية لزبائن المصارف وفقاً للتعميمين 158 و166، وتسديد قسم أكبر من فواتير الخزينة بالعملة الأجنبية. بهذا المعنى، ضخّ مصرف لبنان في الشهر الأول ثلاث دفعات لزبائن المصارف، وفي الشهر الثاني دفعتين، وهو يدرس الآن تسديد المزيد مع توقعات بتوسيع سقوفات المستفيدين من التعاميم. وبلغ مجموع ما دفعه المصرف المركزي، نحو 700 مليون دولار لنحو 400 ألف مودع و400 ألف موظف في القطاع العام. وبموجب الواقع، أي الدولرة القائمة في السوق، يضطر التجّار إلى تحويل دولاراتهم إلى ليرات لتسديد الضرائب والرسوم، ما يتيح لمصرف لبنان بيعهم الليرات والاحتفاظ بالدولارات، واستطاع استرداد نحو 300 مليون دولار مما ضخّه. وهذا ما يتيح لمصرف لبنان الحفاظ على الاستقرار في سعر الصرف. لكنه يبني هذه الإستراتيجية، وفقاً لمصادر المصرف، على أن سعر الصرف الحقيقي هو أقلّ من السعر الرائج في السوق حالياً. في الأشهر التي سبقت العدوان الإسرائيلي على لبنان، أي حين كانت الجبهة تقتصر على إسناد غزة فقط، كان السعر الحقيقي، وفقاً لتقديرات المصرف المركزي، يبلغ 60 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، أما بعد العدوان، فإن السعر ارتفع إلى مستوى ما بين الـ60 ألف ليرة، وبين 90 ألف ليرة. ليست هناك تقديرات نهائية، لكنه يقدّر بنحو 80 ألف ليرة مقابل الدولار. إذاً، لماذا لا يقوم مصرف لبنان بتعديل السعر نزولاً عند مستوى السعر الحقيقي، لا سيما أنه في حال ارتفع السعر الحقيقي إلى ما فوق مستوى الـ90 ألف ليرة الرائج حالياً، فإن المجلس المركزي لمصرف لبنان على استعداد أن يقوم برفع السعر فوراً؟ تقول المصادر، إن مصرف لبنان ليس على استعداد لإبقاء سعر الصرف المعلن من قبله، أقلّ من مستوى السعر الحقيقي حتى لا يقوم بأي دور دعم لليرة، لأن هذا الأمر سيكبّده من احتياطاته الحرّة التي جمعها في الأشهر الماضية والتي تصل إلى 1.8 مليار دولار، لأنها ستستنزف سريعاً، لكنه في المقابل ليس على استعداد لخفض السعر المعلن إلى مستوى السعر الحقيقي لأن ذلك ينعكس مباشرة على موازنة الحكومة سلباً. فالضرائب والتحصيلات في الموازنة مبنية على السعر المعلن، مثل الرسوم الجمركية، وضريبة القيمة المضافة وسواهما، وبالتالي إن أي خفض في السعر المعلن، سينعكس إيرادات أقلّ على الموازنة فيما سيبقى هناك قسم أساسي من نفقاتها، ولا سيما تلك المرتبطة بالرواتب والأجور والبالغة 13 ألف مليار ليرة شهرياً، على حاله، وبالتالي إن احتمالات حصول العجز أو ارتفاعه يصبح كبيراً وينعكس ذلك على قدرته على سحب السيولة بالليرة في السوق، أي أنه سيسحب السيولة بالليرة أقل مما كان يتوقع، وبالتالي سيضخّ الكمية نفسها من الدولارات أو أكثر مقابل سيولة أقلّ، وهذا ما سيخلّ في التوازن النقدي في السوق وبسعر الصرف مباشرة.

عملياً، سعر الصرف صار خاضعاً للتوازنات النقدية في السوق وللدولرة. الخروج من هذه الدوامة ليس أمراً سهلاً، لكنه لا يأتي بلا ثمن. فالمقيمون في لبنان، وخصوصاً أولئك الذين يتقاضون أجورهم بالليرة، يدفعون من مداخيلهم ومن قوّتهم الشرائية ثمن هذه السياسة للحفاظ على «استقرار» سعر الصرف. وهذا الاستقرار لا يتميّز كثيراً عما كان سائداً في السابق، أي إن النموذج الاقتصادي الذي أقرّت فيه السياسة النقدية لا يزال على حاله قائماً على الاستهلاك المستورد المموّل من التدفقات الخارجية. تأتي هذه التدفقات بشكل أساسي من المغتربين اللبنانيين إلى ذويهم في لبنان، ومن المنظمات الأممية لمساعدة النازحين السوريين ولمساعدة النازحين اللبنانيين، فضلاً عن تدفقات تأتي مخصصة لبعض المؤسسات مثل الجيش والقوى الأمنية، وتدفقات غير منظورة تأتي إلى الأحزاب اللبنانية من الخارج. هذا يعني أن النموذج السابق الذي لم يكن يمثّل الإنتاج المحلي فيه والتصدير إلى الخارج نسبة كبيرة من تدفقات العملة الأجنبية، عاد من بين الأموات على ظهر أصحاب المداخيل المحلية وقوتهم الشرائية. وفي المدة المقبلة، يبدو أن الرهانات على تدفقات كبيرة من أجل إعادة الإعمار، ستنعش هذا النموذج، وستصبح فرصة لإحياء كل أركان النموذج الذين ظننا أنه مات في 17 تشرين الأول 2019. طبعاً ليس النقاش في ما يخصّ مصدر هذه الأموال، ولا على طبيعة الشروط السياسية التي تأتي معها، إنما هذه مجرّد محاولة لتوصيف الواقع تسبق أي نقاش. فالسؤال الأكثر رواجاً الآن على صعيد السياسات النقدية والمالية، هو سعر الصرف وقدرته على الاستقرار في ظل البيئة الراهنة، وهو ليس السؤال الصحيح الذي يجب طرحه. صحيح أن قدرة مصرف لبنان، الآن، على إدارة سعر الصرف بشكل يعبّر عن الاستقرار النقدي، مرتفعة وتمتدّ لأشهر من هذه الوتيرة، إلا أن الحكومة لم تقدّم أي إجابة بعد عن قدرتها في تعديل نموذج الاقتصاد السياسي الحالي لتتواءم مع استقرار في سعر الصرف بأقلّ ثمن ممكن. هل ما ندفعه اليوم من ثمن هو الأقل؟ الأرجح أن القوى السياسية الممثّلة في الحكومة وسائر المؤسسات الدستورية، ستواصل إدارة المرحلة الانتقالية وفقاً للنهج نفسه، أي إدارة التوازنات النقدية، وستدير ظهرها لأي حسابات متصلة بالثمن ومن يدفعه.

شاركها.
اترك تعليقاً

العربية
Exit mobile version